يتّصف القرآن الكريم بعظمة إعجازه، وقد أنزله الله تعالى وجعله هداية وموعظة للمتقين، وأمر أهل الإيمان بتفكر وتدبر آياته، وقد أنزله الله جلّ شأنه في أفضل صورة؛ مما يجعل القاريء يُذهل من سحر بيانه، وجمال منطقه، ونظم كلامه، وترنم أصواته وألحان طبقاته، وإيماءاته وإشاراته، وبلاغة وفصاحة معانيه ومفاهيمه. ومن إعجازات القرآن الكريم الرائعة أنه يؤثر في القلوب القاسية، ويجعلها تخشع لأمر الله سبحانه و تعالى.
وقد أُلّفت آلاف الكُتب بكل لغات العالم الكُبرى حول أوصاف القرآن الكريم ووجوه إعجازه منذ القرن الرابع عشر الميلادي وحتى الآن، ولم يستطع أيّ مؤلف أن يعبر كما يجب عن محاسن القرآن الكريم وكمالاته، ولن يستطيع أيّ باحث حتى قيام الساعة أن يحصر فضائل وأوصاف سورة الفاتحة (أم الكتاب) فقط؛ فكما لا يستطيع أي عالم الإلمام بصفات الله تعالى التي ليس لها حدود، فكذلك من المستحيل الإلمام بأوصاف الكلام الربّاني وكمالاته في أيّ من المؤلفات.
وللحروف المُقطّعة في القرآن الكريم وجوه بلاغية فريدة، وتمثل وجها عظيما ومهما ومثيرا من وجوه إعجازه. وعدد هذه الحروف في مجملها أربعة عشر حرفًا، وقد وردت في أوائل تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم.
واستعمال هذه الحروف أمر ذائع ومعتاد عليه في كل اللغات المختلفة. فبالدراسة الدقيقة للفن الشعري والنثري القديم عند العرب، اتضح جليًّا أن هذا كان أسلوبًا أدبيًّا رائجًا في بيئتهم اللغوية، وقد ألفوه، وكانوا يستخدمون الحروف المقطعة للدلالة على مفاهيم ومعاني خاصة بينهم؛ لذا لم ينكروا على النبي ﷺ استعمالها، بل أصابتهم الدهشة والذهول من طريقته الفريدة في نظم الحروف العربية وتقطيعها على هذا النحو المعجز؛ لذا استعمل القرآن الكريم الحروف المُقطّعة وعدها أسلوبًا من أساليبه التي يتحدى بها بلغاء العرب وفصحاءهم بما ألفوه على ألسنتهم. وكان الغرض من استعمال هذه الحروف المُقطّعة هو اتّباع طريقة تبليغ تتناسب مع الأسلوب الرائج في ذلك الوقت، ولافتتان العرب بفن الكلام، ولم يجد المعارضون للدعوة الإسلامية مفرًّا من الإقرار بالأسلوب الإعجازي الفريد للقرآن الكريم.
وأما فيما يتعلّق بمعاني ومفاهيم الحروف المُقطّعة، فالرّأي الراجح أنها سرّ دفين بين المولى عز وجل وبين حبيبه المُكّرم ﷺ، وأن لله وللرسول العلم المُطلق لمعانيها، غير أن الله تعالى قد أخبر بواسطة النبي الأكرم ﷺ عن بعض معاني ومفاهيم الحروف المُقطّعة للصحابة الكرام رضى الله عنهم والتابعين وتابعي التابعين والعلماء والصالحين من الأمة المُحمدية، وقد ذكرتُ تلك المعاني والمفاهيم للحروف المُقطّعة في هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وقد كان للسلف الصالح نصيبٌ من علم النبوة نقلوه إلينا من باب الفضل من أجل تعليم وإرشاد الأمة المُحمدية.
وبصفة عامة فإن الحروف المُقطّعة قد غُض الطرف عنها، إلا أنه توجد ذخيرة واسعة ومعتبرة تخص هذا الموضوع في كتب الأئمة الكرام والعلماء العظام المُخلصين، والتي من المستحيل أن يغفل عنها أهل العلم مهما حدث، والهدف من هذا الكتاب أن تصل معاني ومفاهيم الحروف المُقطّعة إلى عامة الناس، وهنا من الضروري أن أذكر أنني تناولت في الباب الأول من هذا الكتاب: بيان وتأويل الحروف المُقطّعة، في حين أوردت في الباب الثاني: بحثًا تفصيليًّا عن ﴿الٓمٓ﴾ فقط كمثال للحروف المُقطّعة، وذكرتُ فيه بيانها وتأويلها ومعناها والمراد منها.
وأدعو الله تعالى أن يرزقنا فهم أحكام وتعاليم القرآن الكريم ومعارفه ومعانيه الحقيقية، وأن يوفقنا للعمل بها. اللهم، آمين بجاه سيد المُرسلين ﷺ.
خادم العلم والدين
محمد طاهر القادري
غرة ربيع الأول 1440ﻫ
Copyrights © 2024 Minhaj-ul-Quran International. All rights reserved